09 يوليو 2010

السعادة ... بطعم الالم




قال لى صديقى  ابو عبدالرحمن وعلى شفتيه ابتسامة رغم مُسحة الحزن الباديه على مُحياه وفى عينيه :
توفى بالامس عم " على " .
 كان يزورنى بعد صلاة العصر .. ليرد لى مبلغ بسيط كان قد اقترضه منى .. ورغم سنىّ عُمره التى تخطت الستين الا انه كان يبدو موفور الصحة ... الا انه مات ..!
"العم على " حاله استثنائيه فى هذا الزمن
نعم حاله عجيبة ونموذج ندُر ان نصادفة الان .. , يمكن ان يكون تجسيد لقول الله عز وجل :
(يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) ۩
الرجل الاُمىّ البسيط , الفقير بمقاييس الناس والغنى بمقاييس الانسانية .., الصبور القنوع .. لم يأكل الا من عمل يده ولم يطلب من احد شىء قل او كثُر فهو ممن {تعرفهم بسيماهم لا يسئلون الناس إلحافاً} ۩
كنت ارى عنده نعمة عظيمة يغبطهُ عليها الناس .. الرضى !
لهذا كان سعيداً رضياً , واى نعمه اعظم او اجل من هذا..؟




مات "العم على " الفقير بعد ان قضى دينه وادى الامانه التى فى رقبته .. ليلقى ربه وقد ادى حقوق الناس .. يا لها من نعمه لا ينالها الاغنياء ولا يصبوا اليها سواد الناس
الرجل كان يملك " اكسير السعادة " مما يجعلك تتعجب أنَ له هذه السعادة والقناعة فى هذا الحال الذى هو فيه ؟!
لا مال ولا جاه ولا عزوة .., ولا تراه الا بشوش وفى عينيه بريق عينى طفل لم يتلوث نقائها ولم يتبدل صفائها , لم ترهُ ساخط او جزعاً رغم ما الم به فى حياتة من ابتلاء ومن محن  وأحنٌ , حتى عندما فقد ابنه الوحيد شاباً يافعاً او عندما إنهار منزله الذى يأويه او ....
لم تفارق لسانة كلمات  الحمد والشكر لله .. او كلمة " سامحك الله وغفر لك " عندما يتلقى الاساءه وهو الذى لم يسىء الى احد قط
رحمهُ الله عاش سعيداً رغم ما به من رقة حال وعاش كريم النفس مع كل ما يلاقى .., وانه لامر عجيب ان نرى السعادة تمتزج بمذاق الالم والتعب .. ومن منا يتخيل ان تأتى السعادة من الالم !؟
حياة الرجل وسيرته جعلتنى اتسأل .. ما هى السعادة ؟
تذكرت منولوج شهير لاسماعيل ياسين يدور حول هذا المعنى

كلنا عايزين سعادة
بس اية هى السعادة
ولا اية معنى السعادة
قولى يا صاحب السعادة .. قولى قولى

ابتسمت وانا اتأمل قوله " صاحب السعادة "
نعم نحن نطلقها على الصفوة من وجهاء المجتمع , سعادة الباشا - سعادة البيه - سعادتك - صاحب السعادة
نعوت وصفات وعبارات تكريم وتبجيل , فأى سعادة تلك وهل الموصوفون بها سعداء فعلاً ..؟
فكم من اصحاب السعادة يعيشون تعساء وكم ممن ننعتهم بصاحب السعادة فقراء اليها
خبرونى اعزائى .. كيف ترون السعادة ..؟
وهل انتم سعداء ؟
وهل السعادة نسبية ام مطلقة .. سواء فى حياتكم او فى حياة من حولكم
مفهوم السعادة تعرض لهُ اصحاب الفكر والتدبر واهل الحكمة .. وربما الفلاسفة .. وعلى ما يبدو لم يصلوا الى " اكسير السعادة " ولم يستطيعوا توصيف السعادة الدنيويه كما يرونها او يتصورونها
يقول جبران :

و ارى السعادة فى الدنيا .. كما شبحٌ
حتى اذا صار جسماً ملهُ البشرُ
كالنهر يركُض نحو السهل مكتدحاً
حتى اذا واتهُ يبطى ويعتكرُ
لم يسعد الناس الا فى تشوقهم .. الى البعيد
فأن صاروا بهِ ... ملوا

.. اذاً لا وجود للسعادة او لا سبيل للوصول اليها كما يراها جبران .., كلمات جبران رغم روعتها ورغم مُسحة الفلسفة بها الا انه تحمل الابهام وربما التخبط .. وتوحى بمدى تعاسة من قالها ..
لا يعتل القلب الا باعتلال ومرض النفس .. ومن رُزق نفساً سليمة صحيحة عاش حياة الرغد وان كان يعانى الاملاق والفقر .. ولا تأتى الصحة النفسية الا بالرضى ومن رُزق الرضى والقناعة بما قُدر له فهو الغنى .. السعيد
فى حديث نبوى عن ابى هريرة قال رسول الله صلى الله علية وسلم : ".... وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ " اخرجه أحمد والترمذي , اغنى الناس هو اغناهم  نفساً .. نعم الغنىّ و كما قال  امير المؤمنين علي كرم الله وجهه:
يعز غني النفس إن قل ماله * * * ويغنى غني المال وهو ذليل
لم اقصد ان مفهوم السعادة فى المال وحده وانما اردت ان  اُدلل بقول الامام عَلّى .. على احد جوانب الصفاء النفسى بنعمه الرضى وهناك الكثير من ابيات الشعر العربى وقصص السلف التى تصلح ان تكون دستور للصحة النفسية للوصول الى " سعادة الرضى" ,  يقول أبو فراس الحمدانى :

إن الغني هو الغني بنفسه * * * ولو انه عاري المناكب حاف
ما كل ما فوق البسيطة كافيا * * * وإذا قنعت فبعض شيء كاف

القناعة والرضى هما اكسير سعادة " العم على " .. وياله من اكسير نادر غالى الثمن فى هذا الزمان الذى نعيش , الرضى اعظم منةٌ واغلى منحه يهبها المولى عز وجل للعبد " الله يفعل ما يشاء فلا تكن متـعرضا "
رحم الله الرجل .. وازجل له العطاء جراء ما صبر على مرارة الحياة برضى وطيب نفس ..
من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم " اللهمَّ إني أسألك نفساً مطمئنةً تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك"

الهم ارزقنا الرضى بما قسمت لنا واعنا على نفوسنا

.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التعليقات الواردة تعبر عن راى صاحبها .. ولايعنى نشرها اننا نتفق معها دائماً